دار عوضة…حين يصبح الحجر قلبًا
في الأطاولة، حيث الجبال لا تكتفي بأن تعانق السماء، بل ترفع معها الحكايات إلى مرتبة الخلود، تتربع دارٌ لم تُبنَ على حجر فحسب، بل شُيّدت على جذور من وفاء، وعروق من تضحية، وسقفٍ من دعاء الأمهات, وجدرانٌ مترعة بالحب، وحكايات خلدتها الأيام
كانت الأم جمعة بنت مسفر بن سعدان الدحيّة الزهراني، سيدةً خُلقت من ضوء الفجر ونقاء السحاب.
تخرج كل صباح، والقِربة على كتفها، تذهب إلى البئر، تسحب الماء بيدٍ واحدة، والأخرى ترفعها للدعاء.
ثم تعود لتملأ الزير الذي وضعه زوجها الأب عوضة بن أحمد الزهراني أمام بوابة الدار الحمراء، فيكون سبيلًا لكل عابرٍ وظمآن.
يشرب منه المارة رعاة كانوا أم هباطاً أو زوارًا للقرية.وتلهج ألسنتهم بالدعاء للبيت وساكنيه
وكانت، في علاقتها بجيرانها ونسوة القرية، تنثر الحب، وتنشر الضياء، وتمد يدها بالعطاء دون منٍّ ولا انتظار.
كأنها شمعة تضيء الطريق لغيرها وتذوب برضا، أو جدول صغير يسقي القلوب قبل أن يبلّ الثرى.
كانت إذا دخلت بيتًا، دخل معها السلام، وإذا زارت مريضة، عاد الأمل لوجنتيها.
أما الأب عوضة، فكان من أوائل من قاد السيارة في قريته، لكنه لم يكن سائقًا فحسب، بل رسولًا للمروءة.
عمل في مكتب الإشراف التعليمي، رجلٌ يعرفه كل معلم،يصحب المشرفين التربويين في جولاتهم للمدارس ويحبه كل طالب، يحمل في قلبه رسالة، وفي وجهه دائمًا بشاشة، ويده دوما بالخير ممدوة
كان يمر على المدارس كأنه حامل نور، يسأل عن الغائب، ويطمئن على اليتيم، ويزرع الاحترام في كل قلبٍ يلقاه.
ثم حلّ الغياب الأول…
كانت الأم الحنونة جمعة حبلى بتوأمين، فجاءها المخاض، لكنه لم يكن مخاض حياة، بل مخاض شهادة.
فماتت، ومعها التوأمان، في مشهدٍ عظيمٍ من الألم، لكن النور الذي خلّفته لم ينطفئ.
فهي، كما جاء في الحديث، من الشهداء.
شهيدة ولادة، أمٌّ ختمت رسالتها بنَفَس التضحية.
ثم ما لبثت الأيام أن عادت بخبرٍ أشدّ…
سمع الأب عوضة صوت استغاثة من بئر الحُسين.
كان معيض بن عبدالله بن مقنع وابنه محمد في خطر.
فما تردّد، وما فكّر،انطلق مسرعا صوب البئر ونزل إلى البئر فوراً لينقذهما.
نزل دون تردد، دون حبل، دون تفكير،ولم يستجب للنداءات أن أربط حبلا قبل نزولك
كان يدرك أن الوقت حاسم
ربطهما بالرشاء، وكل منهما في (مكتل)
وتم سحبهما إلى خارج البئر ومن ثم تم نقلهما بالإسعاف فكتب الله لهما حياة جديدة فصولها الوفاء
حاول الأب البطل أن يلحق بهما صعوداً لكن غاز ثاني أكسيد الكربون قد تمكن منه فخارت قواه وسقط في قاع البئر ومات غريقاً بعد أن
أخرجهما سالمين، مات رحمه الله وهو يُنقذ الأرواح شهيد نجدة، شهيد شهامة .. شهيد بئر… شهيد فداء.
ومن يومها، صار أهل القرية يقولون عن أبنائه:
“هؤلاء أبناء الشهيدين”
ابن شهيدة المخاض، وابن شهيد الغرق.
في اليوم الثالث للعزاء،
في المجلس الشمالي بدار عوضة، اجتمع الرجال، والأصوات تهدر كأنه مزاد علني لتوزيع مستقبل الأطفال المجهول:
“هل نرسلهم إلى دار الأيتام؟”
“من يأخذ فاطمة؟”
“من يضم أحمد؟”
“من يرعى سعيد؟”
“من يؤوي رحمة؟”
وكان أحمد ذو الثمانية أعوام جالسًا في الزاوية، ينظر إلى الحائط الذي كانت أمه تسنده برأسها، يحدّق في سقف البيت الخشبي وفي الشخوص الشاخصة يتفقد البيت الذي كان ممتلئًا كل صباح، وفارغًا اليوم.
لكن الجد مسفر بن سعدان، نهض كجبلٍ شامخ، وقال بصوته الذي لا يرتجف:
“هؤلاء أولاد بنتي… لن يخرجوا من دار أبيهم، ولن يُسلَّموا لغريب.”
فأجابه الخال حسن بن مسفر:
“أنا من سيأتيك يا والدي، سأنتقل إليهم، أحضر زوجتي وأبنائي، ونعيش في هذه الدار، دار أختي، دار الأمان.”
وهكذا بقي الأطفال، لم يخرجوا من الدار، ولم يتفرقوا،
لأن هناك جدًا عظيمًا، وخالًا كريمًا، وعائلة نسجت بالأمان عباءتهم.
ومنذ أن جاء الخال حسن إلى البيت، نُسجت في هذا الدار قصصٌ من الطموح، لكل من سكنه.
كان يسكنه أربعة من الإخوة، وسبعة من أبناء الخال، ومعهم الخال، والخالة، والجد.
أربعة عشر شخصًا اجتمعوا تحت سقفٍ واحد، في قلب دارٍ واحدة، وتحت دفء المحبة.
في هذا البيت حِيكت أول فصول الرواية، رواية المستقبل، حيث التكوين الأولي للطفولة والمراهقة، حيث الأحلام الصغيرة كانت تكبر على جدران الطين، وتتسلق النوافذ الخشبية لتطلّ على الحياة.
كل من خرج من هذه الدار، خرج وهو يحمل طموحه، وأحلامه، وقد تحقق منها الكثير.
فالبيت الذي احتضنهم، احتضن حكاياتهم، وكان رحمًا ثانيًا، ينبت منه المستقبل.
وكبر أحمد، وكبر معه عهدٌ لا يُنقض.
أعاد بناء الداربحب ووفاء، وغرس الأشجار، وجعل من الدار متحفًا للوفاء.
وصارت الدار تُعرف بأسماء عدة:
دار الشهيدين، دار الجد مسفر، دار الخال حسن، دار أحمد، بل دار عوضة
الذي وضع أول حجر لهذا البناء، وشيده ليبقى، دار عوضة الذي يضم كل الحكايات، وكل الأشخاص.
وهاهو المؤرخ الأستاذ علي بن سدران يطل على الدار دار عوضة بعد أن ولدت من رحم الحب والوفاء ليقول:
يا دَارَ عَوْضَةَ فِي عَلْيَاءَ وَادِيْنَا
لَكِ السَّلَامُ، وَلِلْأَحْيَاءِ دَاعِيْنَا
نَدْعُو لَهُمْ : يَجْمَعُ الرَّحْمَنَ شَمْلَهُمُ
بِجَنَّةِ الْخُلْدِ فِي دَارِ الْمُحِبِّينَا
هذه قصة دارٍ بُنيت بالحب، وسُقيت بالتضحية، وزُخرفت بالعهد،
وستظل خالدة، لا بهندسة البناء، بل بسمو المعنى، وبفضل الوفاء.